بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله والبركاته
صلة المؤمن بالله
يشعر العبد المؤمن ـ في بعض الأحيان ـ بالبعد عن الله عز وجل حيث لا يجد خشوعا في صلاة ولا لذة في عبادة، فإذا صلى خرجت الكلمات من فمه خاوية من الأحاسيس والمعاني، وإذا قرأ القرآن شعر بنفسه وكأنه يقوم بوظيفة مفروضة ينتظر وقت فراغه منها بانتهاء الوقت المحدد.
كل هذه المسائل وغيرها كثير أيضا يجعل المؤمن يقف لحظات تأمل وخشية من هذه الحالة التي ما عهدها في السابق حيث كان يقوم ليله ويصوم نهاره ويجد لذة في إيمانه تجعله مستعدا لمواجهة مصاعب الحياة بكل عزم وقوة.
أسباب البعد عن الله عز وجل
تتعدد الأسباب التي تجعل المؤمن يصل إلى حالة البعد عن ربه، فمنها ما هو واضح جلي يستطيع المؤمن المقصر أن يعرفها بنفسه دون مساعدة غيره، ومنها ما هو خفي غير ظاهر المعالم يعجز المؤمن في كثير من الأحيان عن تحديد دورها في إحساسه بالبعد عن الله عز وجل .
ومن الأسباب الواضحة الجلية التي يستطيع المؤمن أن يدركها بنفسه إذا تفكر قليلا، تلك التي ترجع الى التقصير في الفرائض أو التقليل من النوافل التي شدد الله عز وجل على أهميتها وبين دورها الفعال في التقرب إليه سبحانه، قال عز وجل في الحديث القدسي: 'ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجبيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه'.
ويدخل في هذا الباب أيضا ارتكاب بعض المعاصي التي حرمها الله عز وجل كشرب الخمر أو أكل الربا أو غير ذلك من النواهي التي نهى الله عز وجل عنها ولعن فاعلها، واللعنة كما هو معلوم هي الطرد من رحمة الله عز وجل قال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظالِمِينَ} (هود 81).
أما الأسباب الخفية فهي التي قد يجهل كثيرمن الناس خطورتها على العقيدة، ويجهلون بالتالي دورها الفعال في تقوية إيمان العبد وتعزيز ثقته بربه، من هذه الأمور:
1-الاعتراض على التشريع الذي جاء به الله سبحانه وتعالى على لسان رسله، والذي نظم لهم فيه شؤونهم وأمرهم بتطبيق ما جاء فيه من أوامر والابتعاد عما ورد فيه من نواهي، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَب الْعَالَمِينَ} (الأعراف ـ .45).
ومن الأمور التي فشا فيها الاعتراض على تشريع الله سبحانه وتعالى في هذا العصر، ما يتعلق بحق الله عز وجل في تنظيم شئون ومصالح العباد في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث كثرت الدعوات من بعض الجهال المقلدين إلى الغاء العمل بأحكام الإسلام التشريعية واستبدالها بقوانين وضعية مستقاة في معظمها من قوانين الغرب وتشريعاتهم.
2- التعلق بالدنيا وتفضيلها على الآخرة، مع أن رسول الله بين بأن هذه الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، قال الصلاة والسلام: 'هذه الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما'.
هذا وقد حذر عليه الصلاة والسلام من مخاطر تعلق الإنسان بمتاع الدنيا من مال وزوج وولد، وجعلها الهدف الوحيد الذي يسعى إليه في هذه الدنيا، لما قد يجره هذا الفعل من تعاسة وشقاء خاصة أن هذا المتاع من النعم الزائلة التي لا تدوم، قال عليه الصلاة والسلام: 'تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم'.
لذلك نجد كثيرا من الأشخاص يكرهون ذكر الموت ويعتبرونه أمرا بعيدا عنهم معتمدين على شبابهم وصحتهم، مع أنهم لو تفكروا في أحوال الموتى لوجدوا أن نسبة الموت بين الشباب تفوق يكثير نسبة الشيوخ، إضافة إلى أن الإنسان مهما عاش وعمر في حياته فإنه في لحظة الوفاة ينطبق عليه قول الله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النهَارِ} (يونس: من الآية54) فهذه هي كل الدنيا.
من هنا فمن المفيد على من هذه حالة أن يبادر إلى التوبة والإكثار من ذكر الموت اللذان يورثان القناعة في القلب ويساعدان على تنشيط العبادة.
3- ارتكاب المعاصي والذنوب التي تترك أثرها على العبد وتوجب القطيعة بينه وبين الله عز وجل .
ومن آثار الذنوب في إبعاد المؤمن عن ربه الآثار التالية :
أ- نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين معاصيه، قال تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة ـ76 )
ب-خروج العبد من دائرة الإحسان التي ذكرها رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: 'الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك'، فالمؤمن إذا استشعر معية الله عز وجل في كل لحظة من لحظات حياته أورثه ذلك حفظ الله له وحمايته عن ارتكاب المعاصي.
ج- إحساس المذنب بالرعب والخوف لأن الطاعة هي حصن الله العظيم الذي من دخله كان من الآمنين .
وسائل تقوية الصلة بالله عز وجل :
لا يستطيع أحد الادعاء بأنه يعلم كل الطرق التي تقرب العبد إلى ربه، ذلك لأن تنوع هذه الطرق من جهة واختلاف طباع الناس من جهة ثانية يمنعان أيا كان من تحديد الوسائل وحصرها، من هنا فإن الإنسان وحده هو الذي يعلم الباب الذي يستطيع من خلاله التقرب إلى الله عز وجل فمن الناس من يجد في العبادات المفروضة بابا لهم لا يستطيعون تخطيه إلى غيره من الأبواب، ومنهم من يجد في الإكثار من الحسنات بابا لهم يكفرون به عن خطاياهم ويتقربون بواسطته إلى الله عز وجل.
ومن الوسائل التي تساعد على تقوية الصلة بالله عز وجل:
1- طلب العلم الشرعي الذي يعرف المؤمن بعقيدته ويعينه على الرد على الأباطيل التي تشكك بشرع الله عز وجل وكما يساعده على معرفة أحكام الحلال والحرام والطهارة والعبادة وغير ذلك من الأمور التي تصحح من وسيلة التقرب الى الله عز وجل فمن المعروف أن العبادة لا تكون إلا بما شرع الله عز وجل، فإذا انتفت المعرفة بهذا التشريع انتفت الوسيلة التي تقرب العبد من ربه.
إضافة إلى ذلك فقد أوضح الله عز وجل فضل العلم وأهميته في تقريب العبد من ربه بقوله عز وجل : {إِنمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية 82)، كما أكد الرسول عليه الصلاة والسلام على فضل السعي في طلب العلم بقوله: 'من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة'.
2- التفكر في ملكوت الله سبحانه وتعالى، والاستدلال بآياته المنتشرة في الكون على عظمته سبحانه، إذ أن النظر في الأثر يدل على المؤثر، وجميع موجودات الله أثر من آثاره، قال تعالى: {إِن فِي خَلْقِ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْلِ وَالنهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب} (آل عمران:091).
وهذا التفكر لا يقتصر على الآيات الكونية فقط وأنما يمكن التفكر أيضا في صفات الله عز وجل ومجاري قدره وعجائب صنعه، كل هذا من الأسباب التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وصدق الله عز وجل حينما قال: {الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكرُونَ فِي خَلْقِ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النارِ} (آل عمران ـ 191).
قال الإمام الغزالي مبينا فوائد التفكر في عظمة الله عز وجل وواصفا حال المتفكرين: 'من عود نفسه التفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، فلذة هذا من عجائب الملكوت على الدوام، أعظم من لذة من ينظر إلى أثمار الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة، وهذا حالهم في الدنيا فما الظن بهم عند انكشاف الغطاء في العقبى'، كتاب جواهر القرآن، ص11.
3- الاكثار من الأعمال الصالحة والتنوع فيها لأن مجاري الإيمان عديدة، قال رسول الله : 'الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق'، من هنا فإن المؤمن إذا قام بالفرائض على أتم وجهها واستكثر من النوافل شعر بقربه من الله عز وجل .
كذلك الأمر غذا قام العبد بوصل رحمه، ومساعدة الآخرين وإعانتهم، وعيادة المرضى وغير ذلك من الأفعال المبررة في الإسلام فإنه يفوز بعون الله عز وجل وذلك لقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: 'إن الله في عون العبد ما دام العبد في عون اخيه'.
ولقول الله تعالى في الحديث القدسي: 'يا ابن آدم مرضت فلم تعدني'؟ فقال: يا رب كيف أعودك وانت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مريض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده'.
لذا فلا يستهن المؤمن باثر هذه الأفعال الطيبة في التقرب من الله عز وجل، وليحرص عند قيامه بها إلى المسارعة فيها والاستمرار والمداومة عليها لأن الله تعالى يحب أدوم الأعمال وإن قلت، وليتذكر قول رسول الله : 'صدقة السر تطفىء غضب الرب'.
4- ذكر الله عز وجل والتوجه بالدعاء إليه، لما في هذا الأمر من دلائل على محبته لعباده إذ وفقهم إلى أن يذكروه بدون حول منهم ولا قوة، وصدق الله تعالى بقوله: {فاذكروني أذكركم}.
قال ثابت البناني رحمه الله: 'إني أعلم متى يذكرني ربي عز وجل'، ففزعوا منه وقالوا : كيف تعلم ذلك ؟ فقال: 'إذا ذكرته ذكرني'.
ولا يمكن للمرء أن يتخيل الفوائد التي يمكن أن يجنيها إذا ذكره الله سبحانه وتعالى، ويكفيه أن يعرف فضل الله عز وجل أن وفقه للذكر والدعاء، قال ابن عطاء الله السكندري: 'ليكن لسانك رطبا بذكر الله، وأي دعاء أو ذكر سهل عليك فواظب عليه فإن مدده من الله عز وجل، فما ذكرته الا ببره، وما اعرضت عنه الا بسطوته وقهره'.
ومن هذه الفوائد أيضا ذكر الله عز وجل له في الملأ الاعلى، ومنها حفظه له من كل سوء، قال رسول الله : 'ما من مسلم يقول صباح كل يوم ومساء كل ليلة، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شىء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات الا لم يضره شيء'، ومنها أخيرا مكافأته على ذكره ودعائه باستجابته لدعائه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: 'اني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه'.
في الختام نقول إن مما يعين المؤمن على تقوية صلته بربه العمل والاجتهاد وعدم الركون إلى ما وصل إليه من العبادة، ذلك لأن من خصائص الإيمان أنه يزيد وينقص، فهو إذا غفل لحظة عن مراقبة إيمانه تفلت منه، وخشي عليه من الوقوع في المعاصي التي قد توصل إلى الجفوة بينه وبين ربه.
ومما يعين المؤمن على تقوية إيمانه مراقبة حركاته وسكناته قبل العمل وبعد العمل، فإذا هم بعمل بحث عن حكمه فإذا كان لا يخالف الشرع فعله وإن كان خلاف ذلك توقف عن أدائه وامتنع عن فعله.
أما المراقبة بعد العمل فتكون عبر مراقبة إخلاصه في العمل وشهود فضل الله ومنته إذا كان عمله مباحا، أما إذا كان في العمل معصية فقد فتح الله عز وجل له باب التوبة الذي يمحو الذنب ويرفع الدرجات، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: 'التائب من الذنب كمن لا ذنب له'.
قال ابن عطاء الله السكندري عندما سئل عن كيفية الصحبة لله، قال: 'فاعلم أن صحبة كل شيء على حسبه،
بقلم: الدكتورة نهى قاطرجي
المصدر مجله التقوى
بنشر رائد