بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله والبركاته
عناية الإسلام بالعقل :
من أوضح سمات القرآن الكريم التي لفتت نظر الباحثين والدارسين إليها: إشادة القرآن بالعقل، وتوجيه النظر إلى استخدامه للوصول للحقيقة وما يفيد المجتمع الإنساني في مسيرته عبر الحياة.
وقد دعا القرآن الكريم بطريق مباشر وغير مباشر، إلى تعظيم العقل، والرجوع اليه. والعقل في اللغة العربية ضد الحمق، ويسمى العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عما لا يحسن، وهو القوة المتهيئة لقبول العلم. ويقال للعلم الذي يستفيده الانسان بتلك القوة: 'العقل' أيضا.
وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}(العنكبوت الآية43). ويحرص القرآن على تأكيد تعظيم العقل والرجوع اليه، حرصاً يلفت النظر، ويثير الاهتمام. ويشير القرآن الكريم إلى العقل، ومعانيه المختلفة، ومشتقاته، ومترادفاته في نحو ثلاثمائة وخمسين آية، مستخدما لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه، أو تشير إليه. من قريب أو بعيد. من التفكير، والقلب، والفؤاد، واللب، والنظر، والتذكر، والرشد، والحكمة، والرأي، والفقة.. إلى غير ذلك من الالفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية، على اختلاف معانيها، وخصائصها، وظلالها.مما يعتبر ايحاءات قوية بدور العقل، واهميته بالنسبة للإنسان. والقرآن لا يكتفي بهذا.. بل يذكر العقل في مقام التعظيم. والإشارة إلى وجوب العمل به، والرجوع إليه.
والإشارة إلى العقل لا تأتي عارضة، ومقتضبة في سياق آية ـ كما قال العقاد ـ بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها. مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة. وتتكرر في معرض من معارض الأمر والنهي. والتي يحض فيها الإنسان. على تحكيم عقله، أو يلام فيها الإنسان على إهمال عقله.
ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل، بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون. من أصحاب العلوم الحديثة. بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية، على اختلاف أعمالها، وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف، والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته.
فلا ينحصر خطاب العقل. في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق، والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية، كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة، و وظيفة. فالعقل في مدلول لفظه العام: ملكة يناط بها الوازع الخلقي، او المنع من المحظور، والمنكر. ومن خصائص العقل التي ينبغي علينا معرفتها:
1- أنه ملكة الادراك. التي يناط بها الفهم، والتصور، وهي على كونها لازمة. لإدراك الوازع الخلقي، وإدراك أسبابه، وعواقبه. تستقل أحيانا لإدراك الأمور. فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي.
2- وأنه يتأمل فيما يدركه، ويقلبه، على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه، وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه.
وهذه الخصائص في جملتها. تجمعها ملكة 'الحكيم' وتتصل بها ملكة الحكمة، وهي تتصل كذلك بالعقل الوازع. اذا انتهت حكمة الحكيم به، الى العلم بما يحسن، وما يقبح، وما ينبغي له ان يطلبه، وما ينبغي له ان يأباه.
3- ومن أعلى خصائص العقل الإنساني: الرشد. وهو مقابل لتمام التكوين، في العقل الرشيد.. ووظيفة الرشد. فوق وظيفة العقل الوازع، العقل المدرك، والعقل الحكيم لأنها استيقاء لجميع هذه الوظائف، وعليها مزيد من النضج والتمام، والتمييز بميزة الرشاد. حيث لا نقص، ولا اختلاف. وقد يؤتي الحكيم من نقص الإدراك.
وقد يؤتي العقل الوازع، من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد. ينجو به الرشاد. من هذا وذاك.
وفريضة التفكير في القرآن الكريم كما ـ يذكر العقاد ـ تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها، ووظائفها، ومدلولاتها. فهو يخاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضاً مقتضباً، بل يذكر مقصوداً مفصلاً.
فمن خطابه إلى العقل عامة، ومنه ما ينطوي على العقل الوازع قوله تعالى: {إِن فِي خَلْقِ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْلِ وَالنهَارِ وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ الناسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السمَاءِ مِنْ مَاءفَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَث فِيهَا مِنْ كُل دَابةٍ وَتَصْرِيفِ الريَاحِ وَالسحَابِ الْمُسَخرِ بَيْنَ السمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164) ومنه ما يخاطب العقل، وينطوي على العقل الوازع. كقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ كُنا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنا فِي أَصْحَابِ السعِير} (الملك:10) وهذا ما عدا الآيات التي تبتدئ بالزجر، وتنتهي الى التذكير بالعقل، لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الانسان.. وهذا الخطاب المتكرر الى العقل الوازع، يضارعه في القرآن الكريم. خطاب متكرر مثله الى العقل المدرك، أو العقل الذي يقوم به الفهم، والوعي. وهما أعم، وأعمق من مجرد الادراك.
وكل خطاب الى ذوي الالباب في القرآن. فهو خطاب الى لب هذا العقل المدرك الفاهم. لأنه معدن الادراك، والفهم في ذهن الانسان. كما يدل عليه اسمه في اللغة العربية مثل قوله تعالى: {وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنا بِهِ كُل مِنْ عِنْدِ رَبنَا وَمَا يَذكرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران الآية7)
وقوله تعالى: {وَتَزَودُوا فَإِن خَيْرَ الزادِ التقْوَى وَاتقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} (البقرة: من الآية197).
ومن هذه الآيات نتبين: ان اللب الذي يخاطبه القرآن. وظيفته عقلية. تحيط بالعقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الذي يتلقى الحكمة، ويتعظ بالذكر.
وخطابه خطاب لأناس من العقلاء. لهم نصيب من الفهم والوعي، اوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء، ولا يرتقي الى منزلة الرسوخ في العلم.
اما العقل الذي يفكر، ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي، والروية. فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة. تشترك في المعنى احيانا، وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في احيان اخرى، فهو الفكر، والنظر، والبصر، والتدبر، والاعتبار، والذكر، والعلم، وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق احيانا في المدلول، ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة، تغني عن سائر الكلمات.
قال الله تعالى: {الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكرُونَ فِي خَلْقِ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (آل عمران: من الآية191)
قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكرُونَ} (الأنعام: من الآية50).
بهذه الآيات وما جرى مجراها. تقررت فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها: أن العقل الذي يخاطبه الإسلام، هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر.